التاريخ:
يعمل مؤلف هذا الكتاب باحثاً في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي، كما يعمل كخبير في السوسيولوجيا الكمية في المعهد القومي الفرنسي للإحصاء، له العديد من الدراسات حول «وزن التلفزيون في أوقات الفراغ» وحول «الشرعية الثقافية».. الخ.
في هذا الكتاب الجديد «سوسيولوجية الممارسات الثقافية» يركز المؤلف في بحثه على دراسة «التناقض» بين واقع تعاظم دور النشاطات الثقافية في معظم المجتمعات الغربية المتقدمة اعتباراً من مطلع عقد الستينات الماضي وبين واقع ان هذا التطور العام يخبئ أشكالاً عميقة من عدم المساواة الاجتماعية في الوصول إلى الثقافة. ان السمة الأساسية للتطور الجاري تتمثل في تنامي الميدان السمعي ـ البصري تراجع المكتوب.
وقد ظهرت التطورات الثقافية في المجتمعات الغربية المعنية من خلال الزيادة الكبيرة في النفقات المتعلقة بالسلع والخدمات الثقافية في ميزانية الأسر، وبحيث ان هذه النفقات قد احتلت المرتبة السابعة في سلم انفاقها خلال سنوات الستينات المنصرمة لتقفز إلى المرتبة الرابعة في مطلع القرن الحادي والعشرين في بلد مثل فرنسا، وذلك قبل النفقات المكرسة للملابس وللأثاث.
ويلاحظ المؤلف في هذا السياق تزايد النفقات الثقافية والنفقات المكرسة لأوقات الفراغ في عقدي الثمانينات والتسعينات بشكل خاص، كما يلاحظ أن ذلك التوجه كان أكثر وضوحا في البلدان الاسكندنافية ثم يطرح عدداً من الأسئلة الرامية إلى تفسير التطور الحاصل مثل:
ما هي التبدلات الاجتماعية المرافقة لتعاظم الإنفاق «الثقافي»؟ هل هذا يعني جعل الوصول إلى الثقافة أكثر فأكثر ديمقراطية؟ وهل يترافق هذا مع توحيد لأنماط الممارسات الثقافية أم بالأحرى يعبر عن تبعثر في الهويات وعن تعاظم في أشكال اللامساواة؟
ما يؤكده المؤلف هو أن المبلغ الإجمالي للنفقات الثقافية وطريقة توزيعها ليس لهما إلا دلالة قليلة على الممارسات الثقافية الملموسة بالنسبة للأفراد والجماعات.
وذلك بالمعنى الذي تدل فيه هذه الممارسات على النشاطات الاستهلاكية أو المساهمات المتعلقة بالحياة الثقافية أو الفنية، وهذا يشمل القراءة والتردد على المسارح أو دور السينما وما إلى ذلك من نشاطات شبيهة تتم ممارستها في الأوقات الحرة ولا ترمي إلى أي غاية للربح..
ولا يتردد المؤلف في أن يشمل ضمن إطار هذه النشاطات الخاصة بأوقات الفراغ و«ذات الفائدة» مثل تشذيب الحدائق. وذلك ضمن المعيار الذي تؤشر فيه على نمط الحياة والهوية الثقافية لبعض المجموعات الثقافية. بالمقابل يستثني منها الممارسات الرياضية التي يرى أنها تستوجب من حيث «تأثيرها الاجتماعي» دراسة على حدة.
ويرى المؤلف ان هناك علاقة عضوية بين الممارسات الثقافية والتراتبية الاجتماعية، وذلك على أساس أن توجيه العادات الثقافية ليس بالحصر خاضعاً لمفهوم «المصلحة».
كما يراها «محترفو الثقافة» ولكنه يشكل في المجتمعات الغربية المعاصرة أحد مظاهر التراتبية الاجتماعية مما يستدعي بالضرورة تحليل أشكال عدم المساواة والعلاقات الاجتماعية.. وعلاقتهما مع «السياسات العامة للثقافة» التي تنتهجها السلطات صاحبة القرار.
وتتم في هذا السياق الإشارة إلى أعمال عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو الذي ربط بين «سمات نمط الحياة» وبين «الأصل الاجتماعي»؟
أي ما يمكن اعتباره بمثابة «نظرية طبقية للثقافة» وبحيث يعتبر مؤلف هذا الكتاب الممارسات الثقافية بمثابة «كواشن رمزية» للهويات الاجتماعية. بل ويرى بأن التمايز الاجتماعي للممارسات الثقافية ليس بمثابة مؤشر على تراتبية المجتمعات المعاصرة وإنما هو أيضاً في صميم «تحديد أهداف السياسات الثقافية وأشكالها».
ويتم هنا أيضاً التمييز بين منطقين يقول أحدهما بجعل الثقافة ديمقراطية حسبما هو سائد في «الموديل» الثقافي الفرنسي منذ ان كان الكاتب الكبير أندريه مالرو وزيراً للثقافة الفرنسية في ظل رئاسة الجنرال ديغول خلال سنوات الستينات المنصرمة، وكان الشعار آنذاك هو التالي: «جعل الأعمال الكبرى للإنسانية، وفي مقدمتها الأعمال الفرنسية، بمتناول يد أكبر عدد ممكن من الفرنسيين».
وهذا يعني ان المهمة ذات الأولوية للسياسة الثقافية هي «تقليص الفوارق» فيما يتعلق بالوصول إلى الثقافة وخاصة إلى أعلى مستوياتها. كانت الترجمة العملية لهذا المنطق هي فتح أبواب المتاحف والمعارض وكل معالم التراث الوطني للجمهور العريض.
أما المنطق الثاني فإنه يعارض «العمل الثقافي» الذي تقول به سياسة جعل الثقافة ديمقراطية عبر تقليص الفوارق بمقولة «التنمية الثقافية» التي تؤكد على الهويات المحلية والإقليمية وثقافات الأقليات والتقاليد الشعبية، وهنا يتم التأكيد بالأحرى على مفهوم «الاختلاف» وليس على مفهوم «عدم المساواة» .
ومن هنا يتم التأكيد على ضرورة توجيه السياسات الثقافية نحو «الطبقات الشعبية» بحيث جرى في فرنسا خلال السنوات الأولى من عقد الثمانينات رفع شعار «السماح لجميع الفرنسيين بتنمية قدراتهم في الاختراع والإبداع والتعبير بحرية عن مواهبهم.
وتلقي التكوين الفني الذي يختارونه، والمحافظة على التراث الثقافي الوطني والإقليمي أو العائد لمختلف المجموعات الاجتماعية لصالح الأمة كلها» بهذا المعنى تتشابه الأهداف التي يسعى لها المنطقان وإنما تختلف السبل.
ويمثل «التلفزيون وسيلة الممارسة الثقافية السائدة في مجمل العالم الغربي، بل وفيما هو أبعد منه. وتشير الإحصائيات المقدمة إلى أن النفقات المكرسة للتلفزيون في فرنسا تمثل، منذ نهاية سنوات السبعينات المنصرمة، ما بين خمس وربع الميزانية الثقافية للأسر.
وكان التلفزيون قد دخل في الواقع إلى منازل الفرنسيين بقوة في سنوات الستينات بحيث أن أكثر من 85% منهم كانوا يملكون جهاز تلفزة اعتباراً من عام 1973 وهذا ترافق مع زيادة النفقات المتعلقة بهذا النشاط الثقافي وتنوعها أيضاً..
ومهما كانت الآليات التي يتم استخدام التلفزيون على أساسها وبحيث أن التلفزيون قد «سطا على برنامج النشاطات اليومية» للبشر. وتدل مقارنة إحصائية يقوم بها المؤلف على أن 37% من البريطانيين يشاهدون التلفزة لمدة تفوق الثلاث ساعات يومياً مقابل 20% من الفرنسيين و18% بالنسبة للألمان ومتوسط 23% في عموم بلدان الاتحاد الأوروبي و45% في الولايات المتحدة الأميركية.
وبكل الحالات لاشك أن الأنماط الجديدة لـ «استهلاك الصورة» لها تأثيرها المباشر و«العميق» على الذهنية الثقافية للبشر، وبالتالي على أنماط ممارستهم. وتدل الإحصائيات أيضاً على أن أغلبية البرامج التي تحظى بمشاهدة الجمهور الغربي تتراوح بين برامج المنوعات والألعاب والبرامج الاخبارية والوثائقية.
ويشير المؤلف إلى أنه منذ سنوات الخمسينات الماضية شكل البث التلفزيوني لدى الطبقات الوسطى الأميركية «عنصراً تأسيسياً في إشادة أساليب» حياتها.. وذلك باعتباره مظهراً لولوج دروب الحداثة وكرمز للمساهمة في الثقافة الجماهيرية.
هكذا بدا التلفزيون في البداية كوسيلة لـ «إزالة الفوارق الاجتماعية بنشره صورة «موديل اجتماعي جديد» بورجوازي في معارضه «الموديل» الشعبي السابق. لكن هذا لم يمنع الكثير من الكتاب والمحللين الاجتماعيين من اعتباره «بمثابة خطر على الخلية العائلية» خاصة عبر «المنافسة التي يمارسها حيال سلطة الأب».
وموضوع غياب «سلطة الأب» شكل أحد المحاور الأساسية التي تكررت كثيراً خلال السنوات الأخيرة في ساحة النقاش الاجتماعي الغربي، ثم هناك مسألة العلاقة بين التلفزيون وانتشار العنف.. وقد وصل الأمر بالبعض إلى اعتباره بمثابة «الأفيون الجديد للشعوب» بحيث أنه «يستهلك جزءاً كبيراً من أوقات البشر خاصة لدى الطبقات الشعبية.
وقد دلت إحصائية تعود لعام 2003 إلى أن 96% من منازل العمال الفرنسيين يتوفر فيها جهاز تلفزيون مقابل 90% فقط بالنسبة للكوادر العليا، الذين تفضل نسبة منهم «الاستغناء كلياً عنه بسبب آثاره الضارة لـ «الأطفال» خاصة ودوره في انعدام أي «حوار» بين مختلف أفراد الأسرة.
إذا كانت التلفزة «تحتاج» أوقات فراغ البشر وتدفع بطابعها سلوكهم الثقافي، فإن «القراءة» تعرف بالمقابل حالة «أزمة» هذا على الرغم مما تؤكده الإحصائيات من أن حجم إنتاج الكتب وبيعها في تزايد مستمر في فرنسا أو الولايات المتحدة أو هولندا..
هذا مع تأكيد الجميع بأن القراءة هي «الممارسة الثقافية الأكثر شرعية». وتدل الإحصائيات المرفقة ان نسبة الفرنسيين الذين لم يقرأوا أي كتاب كانت عام 1973 هي 31% والنسبة هي نفسها عام 2003.
ولكن كان هناك 22% ممن قرأوا أكثر من 20 كتاباً عام 1973 مقابل 18% بالنسبة لعام 2003. ولكن وعلى عكس الفكرة السائدة، فإن الشباب ليسوا هم الشريحة الأقل قراءة، إذ تدل إحصائية تعود لعام 2003 في فرنسا على ان نسبتهم في شريحة 14 ـ 29 سنة هي 24% مقابل 43% بالنسبة للذين تزيد أعمارهم على 60 سنة.
وتتمايز ممارسات القراءة حسب نمطها وحسب طريقتها. إذ لا يمكن المساواة بين جميع ممارسات القراءة انطلاقاً من قراءة الكتب وصولاً إلى قراءة قصص الرسوم المصورة ومروراً بالمجلات والصحف.
هكذا تدل إحصائية للمقارنة بين فرنسا وألمانيا بأن الفرنسيين يقرأون عدداً كبيراً من الكتب ونسبة ضئيلة من الصحف والدوريات تماماً على عكس الألمان. وهناك تمايز أيضاً في نوعية القراءة بين مختلف الطبقات الاجتماعية.
وبالإضافة إلى تصنيف القارئين تبعاً لـ «أدوات» نقل القراءة من صحف وكتب وغيرها، هناك تصنيف آخر لها يقوم على أساس «نوعها» من روايات وأدب ودراسات مع تصنيفات فرعية مثل الحديث عن الرواية التاريخية والرؤية العاطفية وروايات المغامرات والأدب الكلاسيكي والأدب الحديث.. الخ.
ويلاحظ المؤلف بأن قراء مختلف «الأنواع» يعبرون عن تباين واضح بين «فروقاتهم» الاجتماعية، ويبدو بوضوح من خلال مختلف الإحصائيات المقدمة حول فئات القراء في الغرب بأن «الكوادر» هم الأكثر ممارسة للقراءة بمختلف «أنواعها» من الروايات البوليسية حتى الدراسات الاستراتيجية وتبدو نسبتهم أكبر في ميدان الدراسات السياسية ومختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ولا شك بأن «العوامل المهنية» تلعب دوراً مهماً في تشجيع مثل هذا التوجه ولو بطريقة غير مباشرة. لذلك يجهد الباحثون في مجالي تاريخ وسوسيولوجية القراءة من أجل ربطها ـ كماً ونوعاً ـ مع الواقع الملموس للقراء ومع محيطهم الاجتماعي.
كذلك يتم ربط القراءة مع التطور التقني لـ «صناعتها» وما ترتب عليه من انتشار لها، فمثلاً أدى «اختراع» فكرة «كتاب الجيب» ذي الثمن الزهيد وتطور النسخ الآلي ثم الالكتروني للنصوص إلى تحول عميق في ممارسات القراءة عبر تنويع أمكنتها وصيغها، لاسيما أن هذه العناصر كلها قد دفعت نحو التفكير بالقراءة على أساس أنها نشاط «إنتاجي» بشكل ما، وليست مجرد نشاط «استهلاكي».
وما ينطبق على القراءة ينطبق إلى حد كبير أيضاً على الموسيقى التي تمتلك طيفاً واسعاً من الاستخدامات من التسلية إلى المعرفة وما بينهما.
بالإضافة إلى حضور الموسيقى هو أكثر «شمولا» في الحياة اليومية للبشر، الأمر الذي ساعد عليه واقع تعدد «أدوات» نقلها.. وبكل الحالات أدى حضورها الشامل إلى جعلها من جهة موضوعاً للتأمل السوسيولوجي من حيث وظيفتها الثقافية والاجتماعية.
ومن جهة أخرى نشاطاً «صناعياً» له موقعه في سوق الإنتاج الموسيقي وما يترتب عليه من تسويق ومنافسة وتأقلم مع تطور «الأذواق» و«الممارسات» في المجال الموسيقي، ولا شك أن الانترنت منذ نهاية عقد التسعينات الماضي قد ساهم في تحديد أنماط استهلاك الموسيقى بواسطة ما أتاحه من زيادة أهمية موقعها في الحياة اليومية.
الكتاب: سوسيولوجية الممارسات
الثقافية
تأليف: فيليب كولانجون
الناشر: لاديكوفيرت ـ باريس 2005
الصفحات: 123 صفحة من القطع
المتوسط
SOCIOLOGIE DES PRATIQUES CULTURELLES
PHILIPPE COULANGEON
LA DE'COUVERTE -PARIS 2005
المصدر:صحيفة البيان